هل صنعت الديمقراطية شيئا ؟.
نقد الديمقراطية لا يقف عند حد، ولذلك مبرر بحجم ذلك النقد؛ فالديمقراطية وضع بشري بمقصده وآليته، يراد له أن يكون عوضا عن القانون الإلهي لحكم البشر.
والذي يجادل في هذه المسلَّمة، المعروفة عن هذا النظام، فعليه: أن يبرز لنا مثالا واحد – فقط لا غير – لديمقراطية أفسحت للشريعة المنزلة أن تمتد بسلطانها، حتى تكون هي المهيمنة.
لا يوجد ذلك المثال، والأمثلة الملفقة لا تصلح.. ولن يوجد لأمر واضح، هو: أن الحكم إما لله تعالى، أو لغيره. وفي الديمقراطية الحكم لغير الله تعالى، فلن تكون لله تعالى إذن، فلا يجتمع نقيضان.
هناك من يجادل في هذه النتيجة، سأعرض له بعد قليل..
وبصيرة المدقق تزداد يوما بعد يوم بفساد الديمقراطية، مهما احتوت على منافع، فالعبرة بالنتيجة وبما غلب، فوجود المنافع ليس مبررا صحيحا للتحسين، إلا إذا غلبت، وإلا لزم تحسين الخمر والميسر، فهذه الديمقراطية لم تقدم للشعوب مكسبا جوهريا سوى: أنها أزالت حكاما، وأتت بآخرين. مع كلفة ظاهرة لتحقيق هذه النتيجة: ماليا، وإعلاميا، وثقافيا، ووقتا وجهدا.
أما الآمال والتطلعات للشعوب، فإنها تذهب كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءً، وليس بشيء. ولو أنفقت أموال الدعاية في القضاء على البطالة والفقر، لكان أجدى، فالأرقام فلكية.
ماذا يريد الإنسان سوى: الأمن، والكفاية، والكرامة. فهل الديمقراطية حققت له ذلك كله ؟.
لو أخذنا الولايات المتحدة الأمريكية مثالا، فالكارثة المالية قضت وأهلكت الحرث، وألقت بكثير من الأمريكيين في الحدائق والمتنزهات، يسكنون الخيام، والملايين فقدوا كل شيء في لحظة.
والرعب والإهانة، والقتل، والسلب والنهب، الذي حل بالشعوب على يد الأنظمة الديمقراطية الغربية خصوصا؛ الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا، باحتلال الهند، والشام، والعراق، ومصر، وفلسطين، والمغرب العربي، ثم حرب فيتنام، واحتلال العراق – مرة ثانية - وأفغانستان..
كل ذلك تم، تحت أنظمة ديمقراطية، لم تتح فرصة لشعوبها لكبح جماح هذه الحكومات المنتخبة المتهورة العدوانية، أو تقدر على محاكمتها في أعمالها ضد الشعوب الآمنة، فالرؤساء المنتخبون يجيدون حبكة الكذب، لإقناع الشعب الغافل، حتى إذا أزف رحيلهم، تبرءوا من كل ما فعلوا واقترفوا.
لا زلنا نذكر كولن باول وزير خارجية أمريكا في ولاية بوش الابن الأولى، وهو يسرد ما زعمه أدلة على امتلاك العراق أسلحة دمار شامل، يومها لم يصدقه أحد، فأدلته ما كانت أدلة، بل تلفيقا.. وبعد أن خرج من السلطة، صار يعلن خطأ تقديره في تقريره، وخطأ غزو العراق.
وفي أيامه الأخيرة، وبعد ثمان سنوات من الكذب على الشعب الأمريكي، يعلن بوش أن معلومات الاستخبارات عن العراق كانت خاطئة.. وأنه دخل الحرب وهو غير مستعد.
هكذا يتلاعبون بكل بساطة بهذا الشعب الديمقراطي، ولا يجدون من يحاسبهم على كل ما اقترفوا، حتى من خلال هذا النظام، الذي من أساسياته محاسبة المعتدين.
هذه الديمقراطية هي التي أوصلت هؤلاء إلى سدة الحكم، فصاروا شرا وبلاء على شعوبهم وعلى العالم. ولا نعرف أنظمة حكم فردية جلبت للعالم مثل هذا القدر من الشر..
ليس تزكية لهذه الأنظمة، لكن إذا كان النظام الفردي مطية للاستبداد. فالأنظمة الديمقراطية كانت مطية لحروب عالمية، قتلت عشرات الملايين، واحتلال، ونهب ثروات البلاد الضعيفة، وزرع قنابل عنقودية بمئات الملايين في العالم، لا زالت إلى اليوم تفتك في لاوس، وأفغانستان، ولبنان بآلاف الأطفال، والنساء، والشيوخ، والرجال.
* * *
فكرة وآلية.
قلنا: إن الديمقراطية والشريعة نقيضان..
وأن هناك من يجادل في هذه النتيجة، ويتعالى عليها وعلى من توصل إليها بوصفها ووصفه (بالسطحية)، ويزعم: أن القانون الوضعي (كالديمقراطية)، لا يعارض الشرعي؛ باعتبار أن الوضعي منتج بشري، يدور على القيم العليا للإنسانية، فهو إذن موافق للشريعة، غير مخالف.
ومثل هذا يلزمه: أن المسلمين، ومنذ ألف سنة وزيادة، ضلوا عن وسيلة لحل مشكلاتهم في الحكم، حتى عرفوها من طريق الغرب. وأن أهل الإسلام، عبر قرون متوالية، لم يظهر فيهم من يرشد ويفتح باب حل لأزمة الحكم والحكام، فاضطروا اضطرار وكرها انتظار هذه المدة الطويلة، حتى يأتي الفرج عن يد أوربا.
طبعا، سيقول هذا وغيره: بل عرفه وطبقه الخلفاء الراشدون..
وهو جواب ملفق، سأعرض له، لكن لا يزال يلزمهم: أن المسلمين بعد عهد الخلفاء كانوا ضالين، يدخل في ذلك القرون المفضلة، من بعد 40هـ (انتهاء عهد الخلافة الراشدة)، حتى انقضاء عصر التابعين، في منتصف الثاني؛ أي ما يقارب المائة عام. هذه المدة الموصوفة بالخيرية بالنص النبوي الصحيح، كانت أيضا في ضلالة – بحسب قولهم - عن طريق موثوق صحيح لإصلاح خلل الحاكم.
أمور لا يقبل بها معظم للخبر النبوي، معظم لسلف الأمة..
إن الديمقراطية فكرة وآلية، يستحيل الفصل بينهما، فإذا جمعت الشعب كله، بمختلف اتجاهاته وطوائفه ودياناته، لينتخب، فأنت مضطر سلفا أن تقبل بمرشحيهم، وعليك أن تقبل بما يقضي به الأغلبية في البرلمان من أحكام، ولو كانت مضادة كليا لشريعة الله تعالى، وإلا كنت ضد الديمقراطية.
وهكذا فالآلية ( الانتخابات العامة) وسيلة مؤكدة لتطبيق الفكرة ( = حكم الشعب، لا حكم الله)، فالفصل بينهما محال إلا في أذهان الواهمين، ذوي الأحلام الوردية، وهم لا يحبذون الوقوف عند هذه النقطة، ويفضلون تجاوزها بجمل من قبيل: هذا لن يكون.. ونحن بلد مسلم.
أو بالمغالطة حين يقولون: أليس كبار العلماء السلفيين أجازوا المشاركة في الانتخابات العامة في الجزائر والكويت، وفي الانتخابات البلدية.
مع أن كل هذه الأمثلة ليست محل النزاع.. فالمشاركة في نظم ديمقراطية (صورية) قائمة، إن جازت فمن باب الضرورة، حتى لا تتفاقم المشكلات، ويتفرد بالقرار فئة لها أهداف خاصة، وهذا يعني أن المشاركة ليست مباحة في الأصل، لولا هذه الضرورة. وإن كنت في شك، فانظر إلى رأي هؤلاء العلماء في النظام الديمقراطي بحد ذاته، ستجدهم يفتون بأنه حكم بغير ما أنزل الله.
كذلك، الانتخابات البلدية، ليست لأجل إنشاء مجلس تشريعي، بل مجلس تنظيمي لبلديات المدن.
الفرق واضح، وهناك من يتصدى للترويج للديمقراطية، وهو معدود من المفكرين والفاهمين، ثم يخلط هذا الخلط الفاضح ما بين الأمور.. لا ندري هو جهل بها، أم سهام طائشة من يائس عدم الحجة.!!.
أما مناقشة من يبني على علمانية صرفة، لا يرى في الديمقراطية أية مخالفة للشريعة، فمهمة مستقلة.